الوركاء ………. حضارة رائدة

الوركاء ………. حضارة رائدة

م. وليد سعدي محمد

كلية الآداب / قسم الاثار

  تعد مدينة الوركاء واحدة من اهم المدن في تاريخ العراق القديم وقد اتت أهميتها من خلال عدة ميزات امتازت بها هذه المدينة عن غيرها من المدن الاثرية في العراق القديم ، تقع اطلال أوروك ( الوركاء حاليا ) التي تطلق عليها التوراة أسم ( أريخ ) في منطقة صحراوية منتصف الطريق بين بغداد والبصرة وهي حاليا تقع ضمن حدود محافظة المثنى بالقرب من قضاء الوركاء ، واسم الوركاء حسب ما يرى العالم الالماني لاندز بركر الذي  شخص مجموعة من المصطلحات الثقافية الشائعة من مهن وأسماء مدن فوجد العديد منها لا تنتمي الى اللغة السومرية كما انها ليست من اللغة الاكدية وقد اطلق على متحدثي هذه اللغة (الفراتيون الاوائل ) وكانت الوركاء من ضمن القائمة الطويلة التي أوردها لاندزبركر وأيده بذلك سبايزر ، كانت مدينة  الوركاء  مركز لعبادة الهين كبيرين هما الاله ( آن ) او ( أنو) اله السماء والهة الحب والحرب ( اينانا ) او ( عشتار ) حيث كانت هاتان المنطقتان مسرحا لتنقيبات البعثة الالمانية منذ علم (1928) الذين أكتشفوا البقايا المميزة للحضارة الجديدة وكانت تشتمل على معابد وأدوات فخارية وأختام أسطوانية ورقم طينية .

لعل أهم ما يميز هذه المدينة هي مجموعة من الاختراعات حيث كانت الوركاء رائدة  في هذا الجانب فكان أهم ما يميز معبد ( أي – نانا ) جداره المبني بالفسيفساء المدهش والفسيفساء هي نماذج ملونة لتصميم هندسي مشكل بواسطة النهاية المسطحة لمخاريط من الطين طولها ثلاثة او أربعة أنجات مطلية باللون الاحمر او الاسود او الابيض وملصقة بالطبقة الطينية للجدار وقد أستخدم أسلوب النقش البالغ التأثير هذا بكثرة في مدينة الوركاء في العصر الشبيه بالكتابي حيث كانت هذه المدينة منشأ لهذا الفن الجميل ويمكن التقاط مخاريط الطين السائبة بالالاف على أطلال المدينة .

أما الاختام فهي الاخرى تقدم أعمالاً فنية متميزة و بحجم صغير حيث أستبدلت معظم الاختام المنبسطة بالأختام الاسطوانية وهذه الاختام هي أسطوانة صغيرة صنعت بمهارة عالية  من الحجر الاعتيادي او الشبه كريم يتراوح طولها بين الانج والثلاث أنجات وسمكها يقدر سمك الابهام وتثقب طوليا كي يمكن لبسها مدلاة حول العنق وتفوق الاهمية التاريخية للأختام الاسطوانية كثيرا على قيمتها الفنية فهي توفر لنا أضافة للفن المصغر الجميل مصدر مهم للمعلومات ثبتت فائدته الكبيرة عند مؤرخي حضارة بلاد الرافدين في كل الحقب التاريخية التي يتواجد فيها ، حيث صارت الاختام الاسطوانية من العناصر الحضارية الملازمة لهذه الحضارة  في جميع عهودها التاريخية .

اما الاختراع الثالث الذي أمتازت به هذه المدينة هو دولاب الفخار وهو اله مخصصة لتشكيل الاواني الفخارية حيث يضع الحرفي الطين في دولاب الفخار ويقوم بتشكيل الاواني الفخارية على هذه الدولاب أثناء دورانه وهو يحركه برجله بحيث يتفرغ بكلتا يديه للعمل في الاناء وقد أثر أستعمال دولاب الفخار في شكل الانية كثيراً حيث تطورت اشكال الاواني الفخارية وصار الانتاج الكبير ممكنا ونشاهد هذا التطور واضحا في مدينة الوركاء وهذا دليل بأن يجعل من مدينة الوركاء الموطن النموذجي لنشأة دولاب الفخار .غير ان مدينة الوركاء شهدت اختراعا جديداً أخر ذا أهمية هائلة تفوق أهمية اختراع دولاب الفخار او الاختام الاسطوانية أو نقوش المخاريط الفسيفسائية ، ففي معابد الالهة ( أي نانا ) في أوروك عثر في الطبقة الرابعة (ب) على أكثر من الف رقيم طيني تتضمن وثائق اقتصادية بأقدم انواع الكتابة وبأبسط أشكالها وهي الكتابة الصورية وكان ذلك بحدود (3200 ق.م ) في العصر المسمى ( الشبيه بالكتابي ) ، حيث تعد الكتابة المسمارية كما أطلق عليها الباحثون أهم محصلة حضارية كبرى حققها الانسان العراقي القديم اذ كان لها الفضل الكبير في وضع أصول التاريخ المدون للبشرية كما تركت أثراً كبيراً على مجمل الحضارة الانسانية ولولاها لما أستطاع الانسان ان يسجل علومه ومعارفه وتراثه وينقله الى الاجيال ، ويظهر ان الحاجة هي التي دفعت العراقيون القدامى الى أختراع الكتابة وذلك لتسجيل وضبط واردات المعابد وحساباتها وغير ذلك مما يتعلق بالشؤون الاقتصادية ، لان المعبد كان مركز الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية .

ونحن امام هذه المجموعة من التغيرات الحضارية الهائلة ، أعتقد العديد من الباحثين انها لا يمكن ان تكون قد نجمت الا عن طريق غزو أجنبي متحضر جداً غير ان هذا الرأي لا يصمد امام النقد والتحليل ومن جهة أخرى فان البحث المتعمق لهذ الحضارة لا يسفر عن اكتشاف اية طفرات مفاجئة في ميادين التنظيم الاجتماعي ولا عن تحولات حقيقية في التقاليد المعمارية والدينية ، ان ما نواجه هنا ليس ثورة فجائية كاسحة بل هو في الواقع ارتقاء حضاري في فصله الاخير بعد ان كان قد تجذر في ربوع بلاد الرافدين قبل قرون عدة ، وتتبين المعالم المميزة للفترة الحضارية الناتجة من هذه التطورات الجديدة بشكل واضح في جنوب العراق في موقع مدينة الوركاء وهذا يحتم علينا دراسة حضارة الوركاء في موقع المدينة نفسها كونها حضارة قائمة بمفردها .