ملحمة كلكامش …..أرث أدبي متنوع

ملحمة كلكامش …..أرث أدبي متنوع

 م. وليد سعدي محمد

 كلية الآداب /قسم الآثار

تعد ملحمة كلكامش واحدة من اشهر الملاحم الشعرية في تاريخ اداب الشعوب القديمة وقد ذاع صيتها وانتشرت نسخ عديدة منها في انحاء واسعة من الشرق الادنى القديم وترجمت من البابلية الى لغات قديمة كالحثية والحورية ، ومما زاد في روعة ملحمة كلكامش انها تناولت موضوعا انسانيا محضا وهو حقيقة الموت المطلقة ، واذا كانت الملحمة قد انتهت نهاية محزنة خيبت امال كلكامش وبني البشر قاطبة ، فانها من جهة اخرى لم تكن نهاية شديدة القسوة ومحطمة لتطلعات الانسان الى الخلود ورفضه حقيقة الموت . ذلك لان الملحمة قدمت البديل وان كان من دون شك دون طموح كلكامش بكثير ، لكنه يبدو منطقيا ومعقولا ، فاذا كان الخلود امراً مستحيلاً لان الالهة استأثرت به منذ اللحظات الاولى للخليقة فباستطاعة كلكامش واي انسان اخر ان يخلد بأعماله ومنجزاته فيبقى ذكره ما بقي الدهر.

  وملحمة كلكامش قطعة فريدة في نوعها من حيث أهميتها الانسانية ووقعها الدراماتيكي ، ففي معظم التاليف البابلية الاخرى يكون الالهة هم الذين يحتلون مركز المسرح وانه حتى في تلك القصص البابلية التي يكون فيها أبطال الرواية من البشر الفانين كان الدور الذي يقوم به هؤلاء الابطال اصطناعياً غير شخصي وينقصه وقع الاثر الدراماتيكي ويكون اشخاص الرواية جامدين لا حياة فيهم، فهم مخلوقات مجردة وحركاتهم واعمالهم شبه تمثيل لانهم لا يقومون بذلك الا لتحقيق غرض الاسطورة التي تسير بموجب سيناريو او عرف مقيد لتحقيق اهداف معلومة ومتعارف عليها ، ولكن الحال يختلف تمام الاختلاف بالنسبة الى ’’ ملحمة كلكامش ’’ ففي هذه الملحمة يكون الانسان هو الشاغل الرئيسي لمركز المسرح ، الانسان ’’ كلكامش ’’ الذي يحب و يبغض ، يفرح ويحزن ، يجزع ويأمل ومع ان الالهة في الواقع موجودون وان ’’ كلكامش ’’ نفسه بمقتضى الطراز الميثولوجي المتعارف عليه في ذلك الزمان ، كان ثلثاه اله والثلث الباقي بشراً فانياً ولكن مع ذلك فان الذي يطغي على الحوادث والحركة في الملحمة أنما هو ’’ كلكامش ’’ الانسان أما الالهة فهي في اثرها وفاعليتها وضعت من اجل ان تكون اطار او ’’مشهداً خلفياً ’’ للواقع والحوادث الدراماتيكية الخاصة بحياة بطل الملحمة والذي يكسب هذه الوقائع الاهمية الخالدة والتأثير الشامل العام هي صفتها الانسانية ، ومما زاد في روعة ملحمة كلكامش انها تتعامل مع أشياء متنوعة من عالمنا الدنيوي ) موضوعنا ) مثل الانسان والطبيعة ، الحب والمغامرة ، الالفة والصداقة ، الخوف من الموت والاخلاص ، الصراع والتمرد ، لتكون منها جميعاً فصولاً تمهيدية  لموضوع الملحمة الرئيسي الا وهو حقيقة الموت المطلقة .

تبدأ رحلة الصديقان بالسفربعد مباركة الالهة ننسون ….. هنا تذكر الملحمة انهما قطعا مسافة طويلة تقرب من 1600 كم قبل ان يصلا الى جبال الارز واستمرت الرحلة ثلاثة ايام….. وبعد عودة الصديقان المنتصران الى الوركاء وقتلهما الوحش ’’خمبابا ’’ أقاما احتفالاً كبيراً بالمناسبة ولما رأت الالهة عشتار البطل كلكامش بملابسه الجديدة أعجبت به وعرضت عليه ان يتزوجها الا ان البطل سخر منها بشدة ….فغضبت الالهة عشتار وطلبت من أبيها آنو اله السماء ان ينزل الثور السماوي في الوركاء ليقضي على كلكامش ….. هنا تنتقل الملحمة الى محور جديد يتمثل بالصراع بين الانسان والالهة وكان النصر من نصيب الصديقان اللذان استطاعا قتل ثور الالهة عشتار والذي يصفه البعض بانه جسارة عظيمة وتمرد على الالهة وهنا في الملحمة علينا ان نميز بين نوع أخرمن الصراع وهو صراع الانسان والانسان الذي نقرأ في مضمونه صراع البداوة والحضارة فانكيدو يمثل حياة الصحراء والبداوة وكلكامش يمثل المدينة والتحضر،….وعلى اثر أفعال الصديقان تجتمع الالهة لتقرر موت انكيدو لأنه ساهم بقتل خمبابا والثور السماوي وبعد موت انكيدو حزن عليه كلكامش حزناً شديداً وبكاه بكاء مراً ورثاه بعبارات تفيض الماً وحسرة :-

’’ أسمعوني ايها الشيوخ وأصغوا الي … من أجل انكيدو خلي وصاحبي أبكي وانوح نواحي الثكلى …..أنه فرحتي وبهجتي وكسوة عيدي لقد ظهر شيطان رجيم سرقه مني ….’’

 صار شبح الموت يلاحق كلكامش لقد أدرك ان الموت سيقهره أجلاً أم عاجلاً مثلما قهر انكيدو …… من هنا تبدأ مغامرة كلكامش للحصول على الخلود قاصداً رجل الطوفان ’’ اوتونابشتم ’’ ليسأله عن سر حصوله على الخلود من الالهة وبعد مسيرة مضنية بين سالكا للجبال وعابراً للبحر التقى’’اوتونابشتم ’’ وروى عليه ما حل برفيقه وكيف ان شبح الموت اخذ يلاحقه منذ ذلك الحين …. وبعد فشل كلكامش في الاختبار أمره اوتونابشتم ان يرجع الى مدينته الوركاء …غير ان زوج اوتونابشتم أشفقت عليه وطلبت من زوجها ان يعطيه شيء ما …..عندئذ اقترب رجل الطوفان من كلكامش وكشف له سراً من أسرار الالهة قائلاً له عليك الغوص الى قاع البحر لتستخرج نباتاً شوكياً يمنح آكله شباباً دائماً …ثم تذكر الملحمة ان كلكامش قد حصل على النبات وكان فرحاً به اشد الفرح الا انه مكث عند بئر ليرد ويغتسل وهنا شمت الحية رائحة النبات فتسللت وأختطفت النبات وبذلك ضاعت فرصة كلكامش الاخيرة لنيل الخلود …… لقد نصحت صاحبة الحانة كلكامش :-

’’ الى اين تسعى يا كلكامش , حينما خلقت الالهة العظام البشر قدرت عليه الموت وأستاثرة بالحياة… اما انت يا كلكامش فكن فرحاً مبتهجاً … ارقص والعب مساءاً ونهاراً …. واجعل ثيابك نظيفة زاهية ….دلل الصغير وأفرح الزوج التي بين أحضانك ……وهذا هو نصيب البشر ’’

  لقد أمضى كلكامش في ملحمته حاملاً همه …..صارع الابطال والالهة قطع الجبال والبحار سلك الوديان والغابات…… لقد ذاق طعم النصر والهزيمة احساسه بالخوف والشجاعة بالفرح والحزن بالصداقة والعداء .